نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية مقالاً لمراسلها في بيروت، بنجامين بارت، بعنوان “مصارف لبنان: سرقة القرن” أشار فيه إلى واقع المودعين في لبنان والمواجهة القضائية التي يخوضونها في وجه مصارفهم.

بعد المعارك في الشوارع، حان موعد المعارك في القضاء. بعد أن أنهكتم أشهر الاحتجاجات الفاشلة، لجأ اللبنانيون إلى القضاء بحثاً عن حقوقهم في نضالهم المستمرّ ضد الأوليغارشية التي صادرت بلدهم. اللبنانيون، بدل الاحتجاج أمام مقرّ حاكم مصرف لبنان، وهو العقل المدبّر للهندسات المالية التي أغرقت لبنان في أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، وبدل تنفيس غضبهم على واجهات المصارف التي جمّدت حساباتهم ومدّخراتهم، يسلكون درب الإجراءات القانونية على الأراضي اللبنانية وفي الخارج.

ففي الأشهر الأخيرة، تم تقديم مئات الدعاوى القضائية ضد مؤسسات مالية لبنانية أمام المحاكم. كما تم تقديم عشرات الدعاوى الأخرى أمام محاكم في فرنسا وبريطانيا وأميركا، إضافة إلى ملفات دعاوى لا تزال قيد الإعداد. كل هذه الدعاوى تقدّم بها المودعون المستشيطين غضباً من عجزهم عن الحصول على الدولارات التي راكموها في حسابتهم، ووضعت المصارف يدها عليها. فالتضخّم تجاوز نسبة 100% وخسرت الليرة اللبنانية 90% من قيمتها مقابل الدولار الأميركي. “هذه خدعة القرن”، يقول المحامي اللبناني الفرنسي إبراهيم أبو زيد، الذي يخوض واحدة من هذه المعارك القضائية العديدة.

إجراءات مهمّة

نجح عدد من الناشطين، في تموز 2020، بالتوصّل إلى قرار قضائي بتجميد أصول رياض سلامة في منطقة جبل لبنان. وهو إجراء، رمزي في الأساس، بانتظار البتّ النهائي في الدعوى المقدمة ضده. كما استحصل رجل الأعمال الأردني طلال أبو غزالة، الذي يحتجر مصرف (SGBL) 40 مليون دولار من ودائعه، على قرار بمصادرة أصول المصرف لضمان أمواله. وهو قرار طعنت به إدارة المصرف المذكور في محاكم بيروت. فتمّ تسليط الضوء في الإعلام بشكل بارز على هاتين القضيتين.

هرم بونزي

إلا أنه خلف هاتين القضيّتين، مئات الأشخاص يلاحقون المصارف بسبب عجزهم عن استرداد بضع عشرات أو مئات آلاف الدولارات. ريبيكا، البالغة من العمر 23 عاماً والمقيمة في بيروت، تنتظر منذ 6 أشهر أن تتمكّن من سحب مبلغ 25 ألف دولار من حسابها لتسديد أقساط جامعتها في الولايات المتحدة، للحصول على درجة الماجستير. وفي السياق نفسه، يقول المحامي فؤاد دبس، أحد مؤسسي رابطة المودعين اللبنانيين، إنه “ليس مسموحاً أن يستمرّ المصرفيون بالحياة الكريمة بينما الشعب يعاني”. منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، وعلى مدى 30 عاماً، عوّم لبنان نفسه بإمكانات لا يمتلكها من خلال تثبيت سعر صرف الدولار على سعر 1500 ليرة. فالاقتصاد اللبناني غير منتج، واعتمد النظام على أسعار الفوائد المصرفية التي تخطّت المنطق وزادت أحياناً عن 15%. وهو ما سمح للمصارف بجذب الودائع التي امتصّها المصرف المركزي من أجل تثبيت سعر صرف الدولار.

تهريب أموال

في صيف 2019، انهار هرم بونزي اللبناني الذي ساهم في إغناء المصرفيين وشركائهم بفعل تضخّم الديون (وصلت إلى حد 90 مليار دولار نهاية 2020) وتباطؤ تحويلات اللبنانيين من الخارج. وفي مواجهة النقص المفاجئ في الدولار، أصدرت جمعية مصارف لبنان قراراً سيطر من خلاله على رأس المال بالعملات الأجنبية. فلم يعد بإمكان المودعين تحويل مدخراتهم بالدولار إلى الخارج ولا سحبها أيضاً، إلّا “بالقطارة” وبالعملة اللبنانية، وعلى سعر صرف حدّده مصرف لبنان على 3900 ليرة للدولار الواحد، في حين أنّ سعر السوق السوداء تجاوز 13000 ليرة للدولار. وتجنّباً لإعلان الإفلاس رسمياً، لا تزال الأحزاب السياسية الرئيسية ومصرف لبنان يعارضون إصدار هذا القرار بموجب قانون. في حين يتم تسهيل حصول عدد من شخصيات النخبة السياسية والاقصادية في لبنان على أموالهم. ففي صيف 2020، قدّر المدير العام السابق لوزارة المالية آلان بيفاني في مقابلة مع “فاينانشال تايمز” حجم الأموال التي تمّ تهريبها من البلد بـ6 مليارات دولار، وذلك رغم التعاميم الصادر عن جمعية المصارف التي منعت تحويل الأموال إلى الخارج.

إعادة هيكلة منسية

عجز حكومة الرئيس حسان الدياب، التي تصرّف الأعمال منذ استقالتها بعد انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، عن إدارة الأزمة من جهة، وعجز المكوّنات السياسية على تشكيل حكومة جديدة لإدارة الأزمة، يساهمان في رفع منسوب الغضب لدى المودعين في لبنان. حتى أنّ مشروع إعادة هيكلة المصارف بات طيّ النسيان بفعل معارضة كل من مصرف لبنان وجمعية المصارف له، لكونه يضع عبء إنقاذ المصارف على كبار المودعين والمساهمين. ولو أنه، بحسب العديد من الخبراء، السبيل الوحيد لوقف الانهيار الحاصل إلى الجحيم اللبناني.

سرقة تاريخية

في هذا السياق، يستسلم العديد من المواطنين في ملف الودائع والمدخّرات، نظراً لأداء المصرف المركزي وقراراته. وانخفض حجم الودائع في المصارف اللبناني، بين نهاية 2019 ومطلع العام الحالي، ما لا يقلّ عن 20 مليار دولار. وفي هذا الإطار يقول المحامي كريم ضاهر إنّه “يتم تطبيق هيركات بشكل غير معلن”. يضيف أنّ “المصارف تحمّل المودعين خسائرها، يلغون ديونهم بشكل تدريجي من خلال ترك الأمور تتعفّن، هذه سرقة القرن، بموافقة مصرف لبنان وجميع مكونات الدولة”.

انتقاد “لوموند”

رفض رئيس جمعية المصارف، سليم صفير، الإجابة على أسئلة “لوموند”. أما الأمين العام في الجمعية، مكرم صادر، فأرسل رداً موجباً على تطبيق “واتساب” بدوره. وقبل أن ينتقد أسئلتنا، كتب رسالة قال فيها إن “90% من المودعين يمكنهم الوصول بشكل عادي إلى حساباتهم المصرفية منذ تشرين الأول 2019. خسر المصرفيون بقدر ما خسر المودعون، وعليهم إعادة رسملة مصارفهم”. ليعود وينتقد الأسئلة التي تقدّمت بها “لوموند” معتبراً إياها أسئلة صحيفة من درجة دنيا.

مسار طويل وشاق

الدعاوى القضائية ضد المصارف مسارها طويل، نظراً لتدابير وإجراءات مواجهة فيروس كورونا، وهي محفوفة بالمخاطر أيضاً. فقد تم إلغاء حسابات عدد من المودعين الذين تقدموا بدعاوى قضائية، في إجراء انتقامي صادر عن مصارفهم. فتمّ سحب ودائعهم وإعطائهم شيكاً مصرفياً بقيمتها يمكنهم محاولة صرفه نقداً في مصارف أخرى. إلا أنّ صرفه يخضع للشروط والإجراءات نفسها، وإن عمدوا على بيع الشيك في السوق السوداء يخسرون أيضاً 30% من قيمته.
وعليه، تبدو احتمالات الانتصار على المصارف ضئيلة في الوقت الحالي. ويقول الحامي دبس: “ربحنا حوالى 30 دعوى إلى اليوم في قضايا تحويل أموال أو سداد ديون أو إعادة فتح حسابات مصرفية، إلا أنه عندما تستأنف المصارف تتعقّد الأمور وقد نخسر”. ففي حالات مماثلة لا توجد فيها سوابق قضائية، يفضّل العديد من القضاة الوقوف إلى جانب المصارف. وفي هذا الإطار يقول المصرفي السابق دان قزّي إنّ “المصرفيين يدخلون الجلسة أمام القضاة ويقولون إنها ملفات تتعلّق بالأمن القومي، وأنّ الوضع سيتحسّن بعد بضعة أشهر، فيقع القضاة في الفخ”.

ملاحقات حول العالم

تدخّل السياسيين في القضاء يلعب دوراً أساسياً في هذه العملية. فيشير خبير قانوني طلب عدم الكشف عن اسمه إلى أنّ “أيدي القضاة مقيدة، يمكنهم اتخاذ قرارات وفعل الكثير من الأشياء، لكنّ المدعي العام الذي يدين بتعيينه للسلطة يمنع كل الإجراءات الجنائية”. لذا، ظهرت العديد من المبادرات القانونية في الخارج. ففي باريس، حصل المحامي ويليام بوردون على أمرين قضائيين بمصادرة أصول الفرع الفرنسي لبنك عودة، كضمان للحصول على مطالب مودعين. وفي مدينة نانت (فرنسا)، من المقرّر أن تبتّ المحكمة التجارية، يوم الأربعاء في 7 نيسان الجاري، في طلب الحراسة القضائية ضد بنك بيروت، في دعوى مقدّمة من مواطن فرنسي لبناني يقيم في منقطة “بروتاني” الإدارية، غير قادر على استعادة أمواله المودعة في حسابه اللبناني في فرنسا. وفي لندن، يقاضي رجل الأعمال بلال خليفة بنك لبنان والمهجر للحصول على 1.4 مليون دولار. إلا أنّ قزّي يؤكد على أنّ “الخطر الأكبر على المصارف اللبنانية سيكون في الولايات المتحدة حيث تم تقديم العديد من الدعاوى القضائية”. ويشرح أنّ “إجبار مواطن أميركي على تحويل ودائعه إلى سندات يوروبوند حكومية كما فعلت المصارف في بيروت، هو أمر غير قانوني في الولايات المتحدة”.

هذا، ويستمرّ المصرفيون اللبنانيون بإدارة ظهورهم إلى واقع الأزمة وعمقها، كما لو أنّ ما يحصل مجرّد زلّة أو أزمة عابرة وأنّ قطاعهم سينجو ويتعافى من دون إجراءات واسعة على مستوى إعادة الهيكلة. فتحذّر روزالي برتييه، الخبيرة في مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية (سينابس) في بيروت، من أن “المصارف في حالة إنكار، والمال لن يعود”. تؤكد أنّ “كل ما يمكن فعله الآن هو تخفيف الضرر وحماية الفئات الأكثر ضعفاً. لسوء الحظ ، تقوم المصارف بالعكس تماماً”.